ولما فتح عمر بن الخطاب رضي الله عنه مصر والإسكندرية والبحيرة والوجه البحري كله جميعًا كان بالصعيد نوبة وبربر وديلم وصقالبة وروم وقبط وكانت الغلبة للروم كان أكثرهم روما. ثم استشار عمرو بن العاص أصحابه أي جهة يقصد وهل يسير بالجيوش شرقًا أو غربًا وما يصنع فأشاروا عليه بمكاتبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهم فكتب إليه يقول: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عمرو بن العاص عامل أمير المؤمنين على مصر ونواحيها إلى عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه سلام عليك ورحمة الله وبركاته: أما بعد فإني أحمد الله وأثني عليه وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والسلام على من بالمدينة من المهاجرين والأنصار والحمد لله قد فتحت لنا مصر والوجه البحري والإسكندرية ودمياط ولم يبق في الوجه البحري مدينة ولا قرية إلا وقد فتحت وأذل الله المشركين وأعلى كلمة الدين وقد اجتمعت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من السادات والأمراء والأخيار المهاجرين والأنصار يطلبون الإذن من أمير المؤمنين هل يسيرون إلى الصعيد أو إلى الغرب والأمر أمرك يا أمير المؤمنين فإنهم على الجهاد قلقون وباعوا نفوسهم لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين قال الواقدي: فلما فرغ عمرو بن العاص من الكتاب عرضه على أصحابه ثم طوى الكتاب وختمه واستدعى برجل يقال له سالم بن بجيعة الكندي وسلم إليه الكتاب ولما وصل وجد عمر بن الخطاب فسلم عليه وأعطاه الكتاب فقرأه ففرح واستبشر واستشار عمر رضي الله عنه علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن حضر فأشار عليه علي بن أبي طالب أن عمرو بن العاص لا يسير بنفسه ليكون أهيب له في قلوب أعدائه وأن يجهز جيشًا عشرة آلاف فارس ويؤمر عليهم خالد بن الوليد رضي الله عنه فقال عمر: صدقت ثم كتب كتابًا يقول فيه:بسم الله الرحمن الرحيم من عمر بن الخطاب إلى عامله على مصر ونواحيها عمرو بن العاص سلام عليك ورحمة الله وبركاته.أما بعد: فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والسلام عليك وعلى من معك من المهاجرين والأنصار ورحمة الله وبركاته وقد قرأت كتابك وفهمت خطابك فإذا قرأت كتابي هذا فاستعن بالله واربط الخيل وأرسل الأمراء لكل بلد أمير ليقيموا شرائع الدين ويعلموا الأحكام. ثم انتدب عشرة آلاف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقر عليهم خالد بن الوليد وأرسل معه الزبير بن العوام والفضل بن العباس والمقداد بن الأسود وغانم بن عياض الأشعري ومالكًا الأشتر وجميع الأمراء وأصحاب الرايات ينزلون على المدائن ويدعون الناس إلى الإسلام فمن أجاب فله ما لنا وعليه ما علينا ومن أبى فليأمروه بأداء الجزية وإن عصى وامتنع فالحرب والقتال وأمرهم إذا حاصروا مدينة أن يشنوا الغارات على السواد وإن بمصر مدينتين كما بلغني إحداهما يقال لها أهناس والثانية يقال لها البهنسا أمنع وأحصن وبلغني أن بها بطريقًا طاغيًا سفاكًا للدماء يقال له البطليوص وهو أعظم بطارقة مصر كما بلغني وأنه ملك الواحات فلا تقربوا الصعيد حتى تفتحوا هاتين المدينتين وعليك بتقوى الله في السر والعلانية أنت ومن معك وأنصف المظلوم من الظالم وأمر بالمعروف وانه عن المنكر وخذ حق الضعيف من القوي ولا تأخذك في الله لومة لائم وأقم أنت بمصر وأرسل الأجناد وإن احتجت إلى مدد فأرسل وكاتبني وأنا أرسل لك المدد. والمعونة من الله عز وجل وأسأل الله تعالى أن يكون لكم بالنصر والمعونة والفتح والحمد لله رب العالمين. ثم طوى الكتاب وختمه بخاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفعه إلى سالم فأخذه ورجع إلى مصر فوجد عمرًا والصحابة نازلين بأرض الجيزة وكان زمن الربيع وهو جالس في خيمته وأصحابه عنده فسلمت على عمرو وخالد وعلى بقية الأمراء. ثم ناولته الكتاب فقرأه إلى آخره وفهم ما فيه. فلما سمع الأمراء ما فيه فرحوا بذلك فرحًا شديدًا.
ثم إن عمرًا استشار الأمراء في ذلك وكانوا لا يفعلون شيئًا إلا بمشورة بعضهم ولذلك مدحهم الله في كتابه العزيز بقوله عز وجل:
{وأمرهم شورى بينهم} [الشورى 38]. فأشاروا عليه أن يرسل خلف الأمراء والجنود المتفرقة في البحيرة شرقًا وغربًا وأن يرتب الجيوش ويقصدوا الصعيد ويتوكلوا على الله عز وجل.
قال الواقدي: وكانت الصحابة لما فتحت مصر والوجه البحري قد تفرقوا فمنهم في الإسكندرية وأمسوس ودمياط ورشيد وبلبيس وكان أكثرهم بوسط البحيرة في المكان المعروف بالمنزلة مثل القعقاع بن عمرو التميمي وهاشم بن المرقال وميسرة بن مسروق العبسي والمسيب بن نجيبة الفزاري.
فعندها استدعى عمرو رضي الله عنه بالنجابة والسعاة وعمرو بن أمية الضمري ومثل هؤلاء رضي الله عنهم أجمعين وكتب الكتب وأرسلها للأمراء فعندها أجابوا بأجمعهم لأنهم رضي الله عنهم كانوا أشوق للقتال من العطشان للماء البارد الزلال وتركوا في البلاد والمدائن من يحفظها أو يحرسها خيفة من العدو وأقبلوا نحو مصر مسرعين ونزلوا حولها وأخبر عمرو رضي الله عنه بقدومهم فدخل دار الإمارة وهي قريبة من الجامع العمري وأقبلت السادات والأمراء يسلمون عليه وكان ذلك نهار الأربعاء عاشر شهر ربيع الأول سنة إحدى وعشرين من الهجرة النبوية وقيل اثنتين وعشرين والله أعلم.
قال: حدثنا محمد بن عبد الله.
قال: حدثنا عبيدة بن رافع عن أبيه جحيفة عن جابر بن عبد الله الأنصاري وحدث بذلك ابن سلمة رضي الله عنه.
قالوا: لما قدمت الأمراء والأجناد من الصحابة رضي الله عنهم أقاموا الأربعاء والخميس والجمعة فخطب عمرو رضي الله عنه بالناس.
فلما فرغ من خطبته أمر الناس أن لا يتفرقوا حتى يقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
فقرأ عليهم الكتاب.
فلما فرغوا من قراءته تواثبوا كلهم كالأسود الضارية المشتاقة إلى فرائسها وقالوا كلهم: سمعنا وأطعنا ولأرواحنا في سبيل الله بذلنا وللجهاد طلبنا وفي الثواب رغبنا وإلى الجنة اشتقنا ففرح عمرو بذلك وقال: إن أمير المؤمنين قد أمرني أن أولي عليكم سيف الله والنقمة على أعداء الله صاحب القتال الشديد والبطل الصنديد خالد بن الوليد.
قال الواقدي: وكان خالد بن الوليد صديق عمرو في الجاهلية وأسلما في يوم واحد.
ثم التفت عمرو إلى خالد وقال: ادن مني يا أبا سليمان فدنا منه فقال عمرو: يا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم كلكم لكم الفضل وإني لست بأفضل وفيكم من هو ذو قرابة ونسب من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم تعلمون ما فتح الله على يديه من البلاد وما أذل الله على يديه من الأجناد.
قال الواقدي: فوثب الفضل بن العباس رضي الله عنه وقال: أيها الأمير إنا بذلنا أنفسنا في رضا الله عز وجل وما نريد بذلك إلا رفعة عند الله عز وجل وإن خالدًا من أخيارنا ولو أمرت علينا عبدًا حبشيًا لامتثلنا أمره في رضا الله عز وجل فناهيك بخالد وهو سيد من سادات قريش عزيز في الجاهلية والإسلام فتهلل وجه خالد وعمرو فرحًا ثم أمرهم بالنزول جميعًا بأرض الجزيرة قريبًا من الهرم الشرقي وأقبلوا يضربون خيامهم حوله حتى تكاملت العساكر رضي الله عنهم أجمعين.
قال الراوي بسنده إلى الواقدي وابن إسحق وابن هشام: لما تكاملت الجيوش وذلك في ربيع الآخر من السنة المذكورة صلى عمرو بأصحابه صلاة الصبح ثم قام من ساعته يمشي على قدميه وحوله جماعة من المسلمين ومعه خالد بن الوليد والمقداد بن الأسود الكندي والزبير بن العوام الأسدي والفضل بن العباس الهاشمي وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عمر بن الخطاب وهاشم بن المرقال والمسيب بن نجيبة الفزاري والعباس بن مرداس وأولاد عبد المطلب وبقية السادات حتى طلع على رابية وأشرف على الجيش فلما رأى اجتماعهم سر سرورًا عظيمًا.
ثم أمر بعض الجيش فتقدمت الأمراء أصحاب الرايات وصار كل أمير يعرض جيشه وبني عمه على عمرو بن العاص فكانت عدتهم فيما ذكر والله أعلم ستة عشر ألف فارس فانتدب منهم عشرة آلاف فارس كلهم ليوث عوابس وعليهم الدروع الداودية متقلدين بالسيوف الهندية معتقلين بالرماح الخطية راكبين الخيول العربية من خيار أمة خير البرية فعند ذلك قال لهم عمرو: يا معاشر الأمراء أصحاب الرايات والسادات الأخيار إن خالدًا أمير عليكم فاسمعوا له وأطيعوا وكونوا كلمة واحدة ونازلوا المدائن والقلاع وشنوا الغارات على السواد ولا تقاتلوا قومًا حتى تدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فإن أبوا فأداء الجزية فإن أبوا فالقتال بينكم وبينهم
{حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين} [الأعراف: 87]. وأرسلوا الطلائع ولا يكون في الطلائع إلا كل فارس كرار في الحرب والقتال وثبتوا أنفسكم ولا يغرنكم كثرة أعدائكم فأنتم الغالبون فقد ذكر الله في كتابه المكنون المبين
{كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} [البقرة: 249]. وأحسنوا نياتكم وثبتوا عزائمكم فأنتم الغالبون والله معكم وأنتم كلكم أهل الفضل والسابقة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتلتم بين يديه ولا تحتاجون إلى وصيتي بارك الله فيكم
واستدعى عمرو بأصحاب الرايات فكان أول من تقدم بعد خالد الزبير بن العوام والفضل بن العباس وزياد بن أبي سفيان بن الحرث بن عبد المطلب وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عمر بن الخطاب والمقداد بن الأسود الكندي وعمار بن ياسروالعباس بن مرداس السلمي و أبا دجانة الأنصاري وغانم بن عياض الأشعري وأبا ذر الغفاري والقعقاع بن عمرو التميمي والمغيرة بن شعبة الثقفي وميسرة بن مسروق العبسي ومالكًا الأشتر النخعي وذا الكلاع الحميري والوليد وعقبة بن عامر الجهني وجابر بن عبد الله الأنصاري وربيعة بن زهير المحاربي وعدي بن حاتم الطائي ومثل هؤلاء السادات رضي الله عنهم وقد اقتصرنا في أشعارهم خوف الإطالة وكل واحد يسلمه راية ويؤمره على خمسمائة فارس قال: فلما تكاملوا وتجهزوا خرج عمرو وأصحابه فودعهم وسارت الكتائب وتتابعت المواكب يطلب بعضها وخلفهم الذراري والصبيان حتى أتوا الجيزة ونزلوا بمكان يعرف بالمرج الكبير قريب من تلك المدائن والقرى والرساتيق وتقدمت الطلائع يتجسسون الأخبار وقد كان بدهشور بطريق عظيم من قبل مارنوس صاحب أهناس وكان فارسًا مكينًا وكلبًا لعينًا قاتله الله وكان يقول في نفسه أنه يناظر البطليوس في ولايته لكن البطليوس صاحب البهنسا لعنه الله كان أشد بأسًا وأعظم مراسًا وكثر عددًا وأقوى مددًا وأوسع بلادًا فكاتبه في ذلك وكاتب روسال صاحب الأشمونين وكاتب أقراقيس صاحب قفط وكان يحكم على أخميم وكاتب الكيكلاج وكان يحكم إلى عدن والبحر المالح إلى بلاد البجاوة والنوبة وحد السودان وتسامع الناس بمسير العرب إلى الصعيد وكاتبت الملوك بعضها بعضًا وماج الصعيد بأهله إلى حد الواحات ووقع الرعب في قلوبهم فعند ذلك وثبت مكسوج ملك البجاوة وحليف ملك النوبة وجمعوا ما حولهم من أرض النوبة والبجاوة والبربر وأتوا إلى أسوان.
وكان مع ملك البجاوة ألف وثلثمائة فيل عليها قباب الجلد بصفايح الفولاذ في كل قبة عشرة من السودان طوال القامة عراة الأجساد على أوساطهم وأكتافهم جلود النمور وغيرها ومعهم الحرق والحراب والكرابيج والقسي والمقاليع والأعمدة الحديد والطبول والقرون وكانت عدتهم عشرين ألفًا فلما وصلوا أسوان خرجوا إلى لقائهم بعسكرهم وأعلموهم بأمرهم وساروا إليهم بالملاقاة من الذرة والشعير والقصب ولحوم الخنازير والضباع وغيرها من الوحوش فأنزلوهم وضيوفهم ثلاثة أيام ثم خرج بطريق أسوان ومعه جيش حتى وصلوا إلى ملك قفط صاحب القرية القريبة من قوص وعمل معهم مثل ذلك وسير معهم جيشًا وساروا حتى وصلوا إلى أنصنا وكان بها بطريق عظيم وبطل جسيم وكان منجمًا وكان يحكم شرقًا وغربًا وكانت مدينته عظيمة على شاطئ البحر وبها جند كثير وعجائب عظيمة ولها حصن عظيم من الحجر علوه ثلاثون ذراعًا ومن داخلها قصور ومقاصير وكنائس وقلاع على أعمدة الرخام وغيرها في المدينة فلما نزلت تلك العساكر على أنصنا خرج إليهم بطريقها جرجيس بن قابوس وتلقاهم وأرسل معهم ابن عم له يسمى قيطارس وكان فارسًا شديدًا في أربعة آلاف فارس ولم يزالوا سائرين حتى نزلوا بواد البهنسا عند بطريق يسمى قلوصا من بطارقة البطليوس فلما سمع بهم البطليوس خرج إلى لقائهم في عسكر عظيم زهاء من خمسين ألف فارس من البطارقة وعليهم الدروع المذهبة وأقبية الديباج المرقومة بالذهب الوهاج وعلى رؤوسهم التيجان المكللة باللآلئ والجواهر راكبين على خيول وبراذين مسرجة عليها سروج الذهب والجنائب مغطاة بأغشية من الحرير الملون المرقوم بالذهب والفضة والخز وكان معه خمسون صليبًا طول كل صليب أربعة أشبار من الذهب تحت كل صليب ألف فارس على كل صليب رمانة من الذهب المنقوش وهم في زي عظيم عجيب وقد أكثروا من الطبول والزمور وضرب القرون والمعازف حتى ارتخت الأرض ومعهم الجمال والبغال والجاموس فلما التقوا ترجلت الملوك والبطارقة للقائهم وسلم بعضهم على بعض وتكلموا فيما بينهم بسبب العرب فقال لهم البطليوس: لا تطمعوا العرب فيكم ولا في بلادكم فإنما مثل العرب كمثل الذباب إن تركته كل وإن منعته فر وهلك فاثبتوا واصدقوا .
قال كرماس الرومي : يا معاشر الملوك والبطارقة إني قد اطلعت على الكتب القديمة وفيها أنهم إن ملكوا البهنسا ونواحيها فلا تقوم لأهل الصعيد بعد ذلك قائمة قال فلما سمع الملوك ذلك صقعوا له ثم انتدب من بطارقته عشرين ألفًا ممن عرفت شجاعتهم وبراعتهم وملك عليهم صاحب الكفور وكان كافرًا طاغيًا وكان اسمه بولص وكان لعينًا ودفع له صليبًا من الذهب وعلمًا من الحرير الأطلس الأصفر مرقومًا بالذهب فيه صورة الشمس ودفع لهم ما يحتاجون له من الجنائب والقباب والسرادقات ومضارب الديباج الملون وأواني الذهب والفضة والصناديق المملوءة بالذهب والفضة والبراذين والبغال وعليها أحمال الحرير الملون وبعضها محمل بالأواني المذكور والخيام والسرادقات وسارت العساكر وتتابعت الملوك بالمواكب يتلو بعضها بعضًا حتى قربوا من مدينة ببا الكبرى فخرج إليهم بطريقًا صندراس وتلقاهم وفعل معهم كما فعل البطليموس وأضافهم وجهز معهم جيشًا عشرة آلاف فارس من صناديد بطارقته وولي عليهم بطريقًا اسمه دارديس وكان يناظر بطريق الكفور في الشجاعة والقوة والبراعة وساروا حتى قربوا من مدينة برنشت فخرج إليهم بطريقها فتلقاهم وكان يناظر البطريق الأعظم رأس بطارقة الكوة ولم يزالوا سائرين حتى ملؤوا الأرض
قال الراوي: وأما ما كان من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم لما نزلوا قريبًا من دهشور كما ذكرنا وكانت العيون من المسلمين من بني طيء ومذحج ينزلون ويتزيون بزي العرب المتنصرة يتجسسون الأخبار حتى اختلطوا بالعساكر المذكورة وكانوا حذاقًا متفرسين فلما رأوا ذلك هالهم أمره.
قال زيد بن غانم الثعلبي وكان ممن حضر الفتوح وشهد الوقعة بينما نحن جلوس نصلح شأننا بالمرج ونحن على أهبة السفر إذ قدمت الجواسيس فأخبروا خالدا بقدوم العساكر.
فقال لهم: هل حزرتم الجيوش.
فقالوا: نعم نحو مائتي ألف فارس وخمسين ألف راجل من النوبة والبربر والبجاوة والفلاحين وغيرهم وهم في أهبة عظيمة ومعهم ألف وثلثمائة فيل وعلى ظهورها الرجال كما وقع في يوم حرب العراق قال خالد: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم قرأ {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} [آل عمران: 173]. ثم قرأ:
{كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} [البقرة: 249] ثم إن خالد قال لأصحابه: ولا تهتموا لذلك واصبروا
{وأنتم الأعلون والله معكم} [محمد: 35]. فليست جموعهم بأكثر من جموع اليرموك ولا من جموع أجنادين ومع ذلك فقد ملكتم مصرهم التي هي تاج عزهم وملكتم الوجه البحري وقتلتم مائة من ملوكهم وبطارقتهم وقد صارت الشام واليمن والعراق والحجاز بأيديكم وقد دانت لكم البلاد وقد كنتم قليلًا فكثركم الله وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها وقاتلتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرتم بالملائكة ووعدكم على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم أنه يستخلفكم في الأرض كما استخلف الذين من قبلكم ومن قتل منكم كان له الجنة وتنتقل روحه إلى روح وريحان ورب راض غير غضبان فلما سمعوا كلامه تهللت وجوههم فرحًا وقالوا: يا خالد نحن كلنا بين يديك وقد وهبنا أنفسنا لله ابتغاء وجه الله ومرضاته.